فصل: تفسير الآية رقم (64):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} نظيره: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الأعراف: 171].
والواو في قوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ} واو عطف على تفسير ابن عباس، والمعنى: أن أخذ الميثاق كان متقدمًا فلما نقضوه بالامتناع عن قَبُول الكتاب رفعنا عليهم الجبل.
وعلى تفسير أبي مسلم ليست واو عطف ولكنها واو الحال، كما يقال: فعلت ذلك والزمان زمان فكأنه قال: وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطُّور فوقكم.
وفوقكم ظرف مكان ناصبه رفعنا، وحكم فوق مثل حكم تحت، وقد تقدم الكلام عليه.
قال أبو البقاء: ويَضْعُفُ أن يكون حالًا من الطور؛ لأن التقدير يصير: ورفعنا الطور عاليًا، وقد استفيد من رفعنا.
وفي هذا نظر؛ لأن المراد به علو خاص، وهو كونه عاليًا عليم لا مُطْلَقَ العلو حتى يصير: رفعناه عاليًا كما قدره.
قال: لأن الجبل لم يكن فوقهم وقت الرفع، وإنما صار فوقهم بالرفع.
ولقائل أن يقول: لم لا تكون حالًا مقدرة، وقد قال هو في قوله: {بِقُوَّةٍ} إنها حال مقدرة كما سيأتي.
والطور اسم لكلّ جبل، وقيل: لما أَنْبَتَ منها خاصة دون ما لم ينبت، وهل هو عربي أو سُرْيَانيّ قولان.
وقيل: سمي بطور بن إسماعيل عليه الصلاة والسلام؛ وقال العَجَّاج: الرجز::
دَانَى جَنَاحَيْهِ مِنَ الطُّورِ فَمَرّ ** تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ

وقال الخليل: الطُّور اسم جبل معلوم؛ لأن التعريف يقتضي حمله على جبل معهود مسمى بهذا الاسم، وهو جبل المُنَاجاة.
وقد يجوز أن ينقله الله إلى حيث هم، فيجعله فوقهم وإن كان بعيدًا منهم.
قوله: {خذوا} في محل نصب بقول مضمر، أي: وقلنا لهم: خذوا، وهذا القول مضمر يجوز أن يكون في محل نصب على الحال من فاعل {رفعنا} والتدقير: ورفعنا الطور قائلين لكم خذوا.
وقد تقدّم أن خذ محذوف الفاء أن الأصل: اؤخذ، عند قوله: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا} [البقرة: 35].
قوله: {مَا آتَيْنَاكُم} مفعول {خذوا}، و{ما} موصولة بمعنى الذي لا نكرة موصوفة، والعائد محذوف أي: ما آتيناكموه.
قوله: {بقوة} في محل نَصْبٍ على الحال، وفي صاحبها قولان:
أحدهما: إنه فاعل {خذوا} وتكون حالًا مقدرة، والمعنى: خذوا الذي آتيناكموه حال كونكم عازمين على الجدّ في العمل به.
والثاني: أنه ذلك العائد المحذوف، والتقدير: خذوا الذي آتيناكموه في حال كونه مشددًا فيه أي: في العمل به، والاجتهاد في معرفته.
قوله: {ما فيه} الضمير يعود على {ما آتيناكم} أي: أذكروا ما في الكتاب، واحفظوه وادرسوه، ولا تغفلوا عنه، ولا يحمل على الذكر الذي هو ضدّ النسيان؛ لأنه ليس من فعل العبد، فلا يجوز الأمر به، وفي حرف أُبَيِّ {واذّكِرُوا} بذال مشددة وكسر الكاف، وفي حرف عبد الله {وتَذَكَّروا مَا فِيهِ} ومعناه: اتّعظوا به.
قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: لكي تتقوا فتنجوا من الهلاك في الدنيا، والعذاب في العقبى. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (64):

قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)}.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مّن بَعْدِ ذلك}:

.قال البقاعي:

قوله: {ثم توليتم} والتولي قال الأصفهاني: أصله الإعراض عن الشيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمر والدين. انتهى.
وهو هنا الإعراض المتكلف بما يفهمه التفعل- قاله الحرالي.
وذلك لأن النفوس إذا توطنت على أمر الله فرأت محاسنه فرجعت بذلك إلى نحو من الفطر الأولى لم ترجع عنه إلاّ بمنازعة من الهوى شديدة.
ولما كان توليهم لم يستغرق زمن البعد أدخل الجار فقال: {من بعد ذلك} أي التأكيد العظيم عن الوفاء به {فلولا} أي فتسبب عن توليكم أنه لولا {فضل الله} أي الذي له الجلال والإكرام مستعل {عليكم ورحمته} بالعفو والتوبة والإكرام بالهداية والنصر على الأعداء {ولكنتم من الخاسرين} بالعقوبة وتأبد الغضب، وأيضًا فلما كان يمكنهم أن يدعوا الإيمان والعمل الصالح عقبت تلك بآية الميثاق إشارة إلى أنه ليس المنجي الإيمان في الجملة بل الإيمان بجميع ما أخذ عليهم به الميثاق إشارة إلى أنه ليس المنجي الإيمان في الجملة بل الإيمان بجميع ما أخذ عليهم به الميثاق، وهو جميع ما آتاهم في التوراة إيمانًا مصحوبًا بالقوة، ومما آتاهم صفة عيسى ومحمد عليهما السلام والأمر باتباعهما، فهو مما أخذ عليهم به العهد وقد كفروا به فلم يصح لهم إيمان ولا عمل، لأن التفرقة بين ما أتى منه سبحانه زنذقة. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مّن بَعْدِ ذلك} أي ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به، قال القفال رحمه الله: قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة، فحرفوا التوراة وتركوا العمل بها وقتلوا الأنبياء وكفروا بهم وعصوا أمرهم ولعل فيها ما اختص به بعضهم دون بعض ومنها ما عمله أوائلهم ومنها ما فعله متأخروهم ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلًا ونهارًا يخالفون موسى ويعترضون عليه ويلقونه بكل أذى ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم وعوقبوا بالطاعون وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرون بها ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس وكفروا بالمسيح وهموا بقتله.
والقرآن وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة فالجملة معروفة وذلك إخبار من الله تعالى عن عناد أسلافهم فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من الكتاب وجحودهم لحقه وحالهم في كتابهم ونبيهم ما ذكر والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

وقوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} تولّى تفعّل، وأصله الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم؛ ثم استعمل في الإعراض عن الأوامر والأديان والمعتقدات إتساعًا ومجازًا.
وقوله: {مِّن بَعْدِ ذلك} أي من بعد البرهان؛ وهو أخذ الميثاق ورفع الجبل. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ثم توليتم من بعد ذلك}: أي أعرضتم عن الميثاق والعمل بما فيه، وأصل التولي: أن يكون بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات، اتساعًا ومجازًا.
ودخول ثم مشعر بالمهلة، ومن تشعر بابتداء الغاية.
لكن بين الجملتين كلام محذوف، التقدير، والله أعلم: فأخذتم ما آتيناكم، وذكرتم ما فيه، وعملتم بمقتضاه.
فلابد من ارتكاب مجاز في مدلول من، وأنه لسرعة التولي منهم واجتماعهم عليه، كأنه ما تخلل بين ما أمروا به وبين التولي شيء.
وقد علم أنهم بعدما قبلوا التوراة، تولوا عنها بأمور، فحرّفوها، وتركوا العمل بها، وقتلوا الأنبياء، وكفروا بالله، وعصوا أمره.
ومن ذلك ما اختص به بعضهم، وما عمله أوائلهم، وما عمله أواخرهم.
ولم يزالوا في التيه، مع مشاهدتهم الأعاجيب، يخالفون موسى، ويظاهرون بالمعاصي في عسكرهم، حتى خسف ببعضهم، وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون، وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرأون بها، ثم فعل ساحروهمم ما لا خفاء به، حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله، والقرآن، وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة.
فالجملة معروفة، وذلك إخبار من الله عن أسلافهم.
فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وحالهم في كتابه ما ذكر.
والإشارة بذلك في قوله: {من بعد ذلك} إلى قبول ما أوتوه، أو إلى أخذ الميثاق والوفاء به، ورفع الجبل، أو خروج موسى من بينهم، أو الإيمان، أقوال. اهـ.

.قال الألوسي:

{ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مّن بَعْدِ ذلك} أي أعرضتم عن الوفاء بالميثاق بعد أخذه وخالفتم، وأصل التولي الإعراض المحسوس ثم استعمل في الإعراض المعنوي كعدم القبول، ويفهم من الآية أنهم امتثلوا الأمر ثم تركوه. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مّنَ الخاسرين}:

.قال الفخر:

ذكر القفال في تفسيره وجهين.
الأول: لولا ما تفضل الله به عليكم من إمهالكم وتأخير العذاب عنكم لكنتم من الخاسرين أي من الهالكين الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم، فدل هذا القول على أنهم إنما خرجوا عن هذا الخسران لأن الله تعالى تفضل عليهم بالإمهال حتى تابوا.
الثاني: أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مّن بَعْدِ ذلك} ثم قيل: {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} رجوعًا بالكلام إلى أوله، أي لولا لطف الله بكم برفع الجبل فوقكم لدمتم على ردكم الكتاب ولكنه تفضل عليكم ورحمكم فلطف بكم بذلك حتى تبتم. اهـ.

.قال القرطبي:

وقوله: {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ} {فضلُ} مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف لا يجوز إظهاره؛ لأن العرب استغنت عن إظهاره؛ إلا أنهم إذا أرادوا إظهاره جاءوا بأنّ، فإذا جاءوا بها لم يحذفوا الخبر.
والتقدير فلولا فضل الله تدارككم.
{وَرَحْمَتُهُ} عطف على {فضل} أي لطفه وإمهاله.
{لَكُنْتُم} جواب {لولا}.
{مِّنَ الخاسرين} خبر كنتم.
والخسران: النقصان؛ وقد تقدّم.
وقيل: فضله قبول التوبة، و{رحمته} العفو.
والفضل: الزيادة على ما وجب.
والإفضال: فعل ما لم يجب.
قال ابن فارس في المُجْمَل: الفضل الزيادة والخير، والإفضال: الإحسان. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فلولا فضل الله عليكم ورحمته}، الفضل: الإسلام، والرحمة: القرآن، قاله أبو العالية.
أو الفضل: قبول التوبة، والرحمة: العفو عن الزلة، أو الفضل: التوفيق للتوبة، والرحمة: القبول.
أو الفضل والرحمة، فأخبر الله عنهم.
أو الفضل والرحمة: بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإدراكهم لمدته.
وعلى هذا القول يكون من تلوين الخطاب، إذ صار هذا عائدًا على الحاضرين.
والأقوال قبله تدل على أن المخاطب به من سلف، لأنه جاء في سياق قصتهم.
وفضل الله على مذهب البصريين مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: موجود، وما يشبهه مما يليق بالموضع.
وعليكم: متعلق بفضل، أو معمول له، فلا يكون في موضع الخبر.
والتقدير: {فلولا فضل الله عليكم ورحمته} موجودان، {لكنتم}: جواب لولا.
والأكثر أنه إذا كان مثبتًا تدخله اللام، ولم يجئ في القرآن مثبتًا إلا باللام، إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى: {وهم بها} جواب: لولا قدم فإنه لا لام معه.
وقد جاء في كلام العرب بغير لام، وبعض النحويين يخص ذلك بالشعر، قال الشاعر:
لولا الحياء ولولا الدين عبتكما ** ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري

وقد جاء في كلامهم بعد اللام، قد، قال الشاعر:
لولا الأمير ولولا حق طاعته ** لقد شربت دمًا أحلى من العسل

وقد جاء في كلامهم أيضًا حذف اللام وإبقاء قد نحو: لولا زيد قد أكرمتك.
{من الخاسرين}: تقدّم أن الخسران: هو النقصان، ومعناه من الهالكين في الدنيا والأخرى.
ويحتمل أن يكون كان هنا بمعنى: صار.
قال القشيري: أخذ سبحانه ميثاق المكلفين، ولكنّ قومًا أجابوه طوعًا، لأنه تعرّف إليهم، فوحدوه، وقومًا أجابوه كرهًا، لأنه ستر عليهم، فجحدوه.
ولا حجة أقوى من عيان ما رفع فوقهم من الطور، ولكن عدموا نور البصيرة، فلم ينفعهم عيان البصر.
قال تعالى: {ثم توليتم}، أي رجعتم إلى العصيان، بعد مشاهدتكم الإيمان بالعيان، ولولا حكمه بإمهاله، وحكمه بإفضاله، لعاجلكم بالعقوبة، ولحلّ بكم عظيم المصيبة.
وقال بعض أهل اللطائف: كانت نفوس بني إسرائيل، من ظلمات عصيانها، تخبط في عشواء حالكة الجلباب، وتخطر، من غلوائها وعلوّها، في حلتي كبر وإعجاب.
فلما أمروا بأخذ التوراة، ورأوا ما فيها من أثقال التكاليف، ثارت نفوسهم الآبية، فرفع الله عليهم الجبل، فوجدوه أثقل مما كلفوه، فهان عليهم حمل التوراة مع ما فيها من التكليف والنصب، إذ ذاك أهون من الهلاك، قال الشاعر:
إلى الله يدعى بالبراهين من أبى ** فإن لم يجب نادته بيض الصوارم